بــلاغــة "الرواية العائلية" رواية: المنبوذ نموذجا
بقلم : د. حــســـن الــمـــودن
1 ــ " الرواية العائلية" مصطلح نفساني وضعه مؤسس التحليل النفسي س. فرويد في نص أصدره سنة 1909 تحت عنوان:" رواية العصابيين العائلية". وتعتبر مارت روبير أول من وظّـف هذا المصطلح النفساني في قراءة الأدب، والرواية أساسا، في كتابها الصادر سنة 1972 تحت عنوان: " رواية الأصول، أصول الرواية".
والمقصود بـ " الرواية العائلية " هو أن هناك حكاية عائلية أصلية هي، منذ القدم، نواة كل الخرافات والأساطير والآداب السردية. وهذه الحكاية العائلية حكايتان: حكاية "العالم العائلي المعـثور عليه"، وفي هذه الحكاية نجد إعادة صوغ للعائلة الواقعية التي خيّبت الآمال، وتعويضها من خلال عمليات التمثيل والتخييل بعائلة أخرى ملكية ونبيلة. وحكاية " العالم العائلي المعيش"، وفي هذه الحكاية لا تعوّض العائلة الواقعية بأخرى متخيّلة، بل تتمّ مواجهة عنصر غير مرغوب فيه من عناصر هذا العالم العائلي المعيش من أجل أن بيستعيد خصائصه الأصلية والطبيعية.
وبهذا المعنى، تصنّف مارت روبير الأدب إلى صنفين: أدب "العالم العائلي المعثور عليه" وأدب " مواجهة العالم العائلي المعيش". ولاشيء يمنع الأدب السردي، في افتراضي، من انتهاك هذا التصنيف، وذلك بأن يتركّـب نصّ سرديّ ما، وبطرقه الخاصة، من الحكايتين معا.
وأفترض أن رواية المنبوذ (الصادرة سنة 2006)للكاتب السعودي المعاصر عبد الله زايد تنتمي إلى هذا الصنف الثالث الذي يجمع بين الحكايتين معا. وبعبارة أخرى، فإننا نجد الرواية، على مستوى الحكاية، تقول الواقع العائلي الاجتماعي المعيش، على طريقة الرواية العائلية التي تقوم على حكاية " العالم العائلي المعيش ". وهي من خلال ذلك، تركّز على هذا الذي تنبذه العائلة، تقصيه وتبعده وتطرده من عالمها. ويجد المنبوذ نفسه مرغما على الانفصال عن عالمه العائلي الأصلي، فهو لم يختر يوما الابتعاد عن عائلته، قدر ما يجد نفسه مجبرا على الرحيل والهجرة بعيدا.
قد ينجح المنبوذ المطرود من عائلته الأصلية في تأسيس عائلة جديدة في مكان آخر بعيد، وربما هذا ما حصل مع الأب، أب السارد الرئيس، وبهذا يمكن القول إن الرواية العائلية قد انتقلت من حكاية " العالم العائلي المعيش " إلى حكاية " العالم العائلي المعثور عليه ".
وقد لا ينجح المنبوذ في تأسيس عائلة جديدة بعيدا عن عائلته الأصلية، وهذا ما حدث مع الابن، السارد الرئيس، الذي طردته العائلة العشيرة سابقا، واستقر في مدينة بعيدة، ولم ينجح في تجاوز فشله الاجتماعي. وعاد بمناسبة مرض أبيه على أمل أن يعود، ربّما، إلى عائلته الأصلية، فمات الأب، وتبرّأ منه إخوته، ووجد نفسه مطرودا منبوذا مرة ثانية، مجبرا على العودة من حيث أتى، وانتهت حكايته بعزمه على أن يستيقظ من هذا الواقع الأسود، وهي نهاية مفتوحة على الاحتمالين: قد يعمل المنبوذ على تأسيس عائلة جديدة، وهذا هو الدرس الذي تقدّمه حكاية أبيه، المنبوذ هو الآخر كما تقدم. وقد يكون اختياره هو مواجهة عالمه العائلي المعيش، ولو من بعيد، ذلك لأنه صحافي وكاتب، وبالكتابة يمكنه أن يواجه الظواهر السلبية والتقاليد البالية التي تجرّد العالم العائلي من خصائصه الإنسانية الطبيعية. وما يؤكد هذا أن إخوته طردوه في المرة الأخيرة بسبب مقالاته التي تهاجم المجتمع العائلي وقوانينه وعاداته. وإجمالا، يبدو أن نهاية الرواية، أو الأصح نهاية حكاية السارد الرئيس مفتوحة على الاحتمالين.
وعلى مستوى الحكاية دائما، وعكس المألوف في الروايات العائلية الأدبية، نسجل أن في رواية المنبوذ ليس الأبوان من يطرح مشكلا، بل على العكس تماما، فالأمّ كما الأب يحتلان مكانة خاصة واستثنائية، والعناصر التي تهدد العائلة تتحدد أساسا، وفي مختلف الحكايات العائلية التي تقدمها الرواية، في الإخوة الذين يمارسون النبذ والإقصاء والإبعاد.
ومع ذلك، أفترض أن رواية عبد الله زايد لا تقول "الرواية العائلية" على مستوى الحكاية(المضمون) فحسب، بل إننا نجدها تؤسس "رواية عائلية" أخرى على مستوى الكتابة(الشكل). ويبدو أن علامات " العالم العائلي المعثور عليه" لا تتبدى بوضوح إلا على مستوى الشكل الفني للرواية، ومن أهم هذه العلامات: تعدد الرواة والأصوات، توالد الحكايات وتشابكها، التهجين وتكسير الحدود بين الأجناس الأدبية، المونولوج الداخلي ...وهي العلامات التي تقف ضد النبذ والإقصاء، مستحضرة بطبيعتها ذلك الآخر المقصي المنبوذ.
2 ــ الرواية العائلية: مستوى الحكاية
تتألف رواية المنبوذ، على مستوى الحكاية، من حكاية مركزية، حكاية إطار، "بطلها " هو السارد نفسه، وهو الابن في العائلة موضوع السرد. كما تتألف من حكاية أخرى، مؤطّرة داخل الحكاية الأولى، وقد أخذت حيزا هاما داخل الرواية، "بطلها" هو سارد آخر، وهو أب العائلة التي ينتمي إليها السارد الأول، أي الابن. وتتخلل كل واحدة من هاتين الحكايتين حكايات فرعية، فداخل حكاية الأب نجد حكاية صاحب القافلة، وحكاية ياسر، وحكاية إسماعيل، وحكاية جاسم، وحكاية العجوز وابنها. وداخل حكاية الابن، نجد حكايتين: حكاية الأب متضمنة الحكايات الفرعية السابقة، وحكاية حسين رفيق السارد الابن في رحلة العودة. والحكايات في مجموعها تقول تجربة المنبوذ والمطرود، أو تجربة المهاجر المطارد، أو تجربة المقصي المبعد الذي قد يعيش داخل العشيرة كأنه منبوذا يعيش خارجها. وبهذا، تبدو مختلف الحكايات كأنها مرايا متجاورة ومتداخلة في الوقت ذاته، تعكس صورة المنبوذ في مجتمع عائلي عشائري يقوم على الظلم والإقصاء والنبذ والإبعاد.
الحكاية الإطار هي حكاية الابن الذي يعيش في الوقت الحاضر الوحدة والفراغ في هذه المدينة البعيدة، بعد أن نبذته العشيرة، وأجبرته على الرحيل بعيدا عن أرض عائلته. واليوم، جاءه الخبر بمرض الأب ورغبته في رؤية ابنه. فكان لابد من السفر برّا بعد تعذر السفر جوا، واستغرقت الرحلة وقتا طويلا، ووحده اشتغال الذاكرة داخليا خفّف من وطأة السفر، وذكرياته مع أبيه، بل وحكاية أبيه كانت الحاضر الأكبر في هذا المونولوج التذكّري. وقبل نهاية الرحلة تعرّف السارد الابن على أحد المسافرين، واسمه حسين، وحكايته هي التي أتت على ما تبقى من الطريق. وبعد وصوله، لم يتمكن الابن من رؤية أبيه للمرة الأخيرة، وتصادم مع إخوته الذين تبرأوا منه، فدخل في إغماءة وهذيان ونوم استغرق ثلاثة أيام. استيقظ ووجد نفسه في المستشفى، علم أن أباه قد مات، وعرف أن لا أحد من إخوته سأل عنه، وحقيبته ما تزال في مكانها، ولم يتلقّ تعزية من أحد، فاستقل الحافلة منبوذا مطرودا عائدا إلى تلك المدينة البعيدة.
وإجمالا، فالأمر يتعلق بحكاية ابن فقد أمّه في الزمن الماضي البعيد، وفقدانها هو الجرح الأول، هو الألم المترسخ في النفس. وهو يفقد في الوقت الحاضر أباه الذي كان سنده ودعمه في الحياة، علّمه كيف ينسى الآلام والجراح، وحاول من خلال حكايته التي حكاها له ذات مساء، واستحضرها الابن في طريق العودة، أن يقدم له درسا يساعده على تجاوز النبذ والإقصاء الذي تمارسه العائلة والعشيرة في حقّه، فقد عاش هو الآخر، كما آخرين تعرّف عليهم، تجربة النبذ والإقصاء. والابن، في الوقت الحاضر، لم يفقد أباه فحسب، بل فقد إخوته وأشقاءه الذين تبرؤوا منه، وأبدوا عدم رغبتهم في بقائه، هو الذي ينتقد مجتمعه ويحطّ من قيمه وتقاليده.
وبهذا المعنى، فالمشكلة في هذه الحكاية العائلية لا تتعلق بالأبوين، فللأم كما للأب مكانة خاصة واستثنائية. وإنما المشكلة الكبرى في الإخوة الأشقاء الذي ينبذون أخا لهم، لأن له رأيه في المجتمع وقيمه وتقاليده. ولأنهم يتحصنون بهذه القيم والتقاليد، ويمثلون نظاما عائليا عشائريا بأكمله، فانه لم يكن أمام الأخ المنبوذ إلى الرحيل بعيدا، وأمامه اختياران: أن يؤسس عائلة جديدة أو أن يواجه هذه العناصر السلبية في النظام العائلي العشائري، ولو من خلال الكتابة النقدية ضد تقاليده وقيمه.
وهكذا تبدو حكاية الابن كأنها حكاية دائرية مغلقة: تنطلق الحكاية من واقع النبذ والإبعاد والفراغ والوحدة في تلك المدينة البعيدة، والى ذلك الواقع تعود الحكاية في النهاية، بعودة الابن/الأخ مطرودا منبوذا مرة أخرى من عائلته وعشيرته، مع عزمه في النهاية على أن يستيقظ من هذا الواقع الأسود، على حدّ تعبيره. وهذا ما يجعل حكايته، الحكاية الإطار، مفتوحة على احتمالين: الانفصال نهائيا عن عائلته الأصلية التي خيّبت آماله، وتأسيس عائلة جديدة، أو الاستمرار في مواجهة عشيرته وعائلته الأصلية من خلال الكتابة وانتقاد قوانينها وقيمها وتقاليدها.
والحكاية الثانية التي احتلت حيّزا هاما من الرواية هي حكاية الأب، وهي حكاية مؤطّرة داخل الحكاية الأولى، حكاية الابن. والأب، هو الآخر، كابنه، عاش وقاسى تجربة النبذ والإقصاء والإبعاد. ومشكلته هو الآخر لم تكن مع أبويه، بل مع أخيه الأكبر. فقد مات والده، وترك له ولإخوته إرثا كبيرا من أراض زراعية ومواشي وأنعام، وكان يقضي يومه في الحرث والسقي والعمل، وكان ينظر إلى أخيه الأكبر كأنه أبوه، لكن أخاه الأكبر كان يعتبره مجرد عامل عليه أن يرحل يوما. فكان أن طرده ذات مساء بعد أن أشبعه ضربا وشتما.
وهكذا وجد نفسه، هو الفتى الصغير، مطرودا من أرضه وقبيلته، وانسحب بجرح ينزف في نفسه، وألم جديد داخل جوفه، وهرب بعيدا نحو المجهول، فتحول من صاحب أراض وأملاك إلى صعلوك حقير، مشرّد وحيد وفقير.
وقاسى الكثير قبل أن يستقر به الحال في مدينة بعيدة، فدخل الجندية صغيرا، وبعد سنوات تحسنت أحواله المادية، وزادته الجندية صلابة وقوة وانتظاما، وأصبح أكثر إدراكا لطرق التعامل مع المجتمع والآخرين، وحاول دائما أن يكون إنسانا صالحا، لكن أحداثا عديدة وقعت حاولت أن تنال من قلبه. فقد كان هو نفسه منفذ حكم الإعدام في حقّ المجرم الذي قتل أخاه الأصغر الذي جاء ليلتحق هو الآخر بالجندية. ولم يستوعب كيف تحول من مزارع مسالم إلى رجل عسكري عنيف يوجّه سلاحه إلى صدر إنسان أعزل ولو كان قاتل شقيقه.
وكان هذا الحدث الدافع الذي دفعه إلى التفكير في العودة إلى أرضه وقبيلته وعائلته. وعند عودته إلى بيت والديه، فوجئ بموت أخيه الأكبر الذي باع أرض الآباء لرجل آخر. فما كان عليه إلا أن دفع كل ماله من أجل أن يستعيد الأرض، ووجد نفسه مجبرا على العودة إلى الجندية ليجمع مالا آخر، فكلف عجوزا وابنها برعاية أرضه وبيت آبائه.
وصادفت عودته إلى الجندية انطلاق حرب 1948 بين العرب وإسرائيل، وشارك في الحرب، وخبر أسباب الهزيمة، وعرف أن مشكلة العرب أن كل واحد منهم يحمل معه عصبيته وعشيرته إلى ساحة الحرب، فكيف يمكن للعرب أن ينتصروا وهم يمارسون النبذ والإقصاء ضد بعضهم البعض وفي ساحة المعركة.
عندما عاد من جبهة القتال، حنّ إلى بلده وأرضه، واجتاحته رغبة في إحداث تغيير طالما حلم به، وكان لابد من حياة الاستقرار، فسفره الدائم صار يراه جبنا وهروبا وخوفا قابعا داخل وجدانه، ولا مفرّ من مواجهته.
عاد إلى بيته، ووجد العجوز وابنها يرعيان أرضه وأملاكه، فاشترى المواشي، واستصلح الأراضي، وصار يعيش عهدا زاهرا من حياته، وأصبح هاجس الزواج يلازمه، فتزوج وأصبح لديه أسرة وأطفال. ومضت السنوات، وجاء الجفاف، وانتشرت الأوبئة، وماتت زوجته وابنته فاطمة، وبقي معه طفلان صغيران، وعادت الوحدة تطبق عليه مجددا.
رحل الجفاف، وجاءت الأمطار، وذات يوم وصلت ضيفة مع ابنها في حالة يرثى لها، ولم تكن الضيفة إلا أخته من أمه. دعاها إلى البقاء، وأحسن رعايتها هي وابنها. لكن الجحود ونكران الجميل هو ما تلقاه من أخته. فقد فكر يوما، وهي في رعايته، أن يسافر إلى مدينة ليعدّ فيها أسباب استقراره هو وطفلاه اللذان يريدهما أن يتعلما وأن يدخلا المدارس. فسافر وكلف أخته برعايتهما إلى أن يعود لأخذهما معه. سافر واستطاع أن يحصل على عمل بمدينة بعيدة، وأعدّ ما يلزم من أجل أن يأتي بطفليه. ولما عاد إلى بلدته، وجد أخته قد باعت كل أملاكه ورحلت إلى بلدة أمها ومعها طفلاه. سافر إليها، وكانت الصدمة أن وجد ابنها وسيما ناعما، أما طفلاه فهما في حالة مأساوية من الجوع والإهمال والعمل الشاقّ. فعاد بطفليه إلى تلك المدينة، وهو لا يصدق كيف لأخت أحسن إليها هي وابنها أن تسيء إليه والى طفليه بهذه الطريقة. ولمّـا استقر به المقام، فكر مرة أخرى في الزواج وإلحاق ابنيه بالكتّاب والمدرسة. فمنحه الله امرأة حنونة، ورزقه أطفالا آخرين منهم السارد الابن صاحب الحكاية الأولى، أي الحكاية الإطار.
وتخللت حكاية الأب حكايات فرعية أخرى، منها حكاية صاحب القافلة الذي سافر معه، هو الفتى المطرود من عائلته، إلى تلك المدينة البعيدة التي امتهن فيها الجندية. وقد كان صاحب القافلة قاسي القلب. وحكايته أنه مجهول الأبوين، من دون نسب عائلي، وكان ذلك كافيا ليكون منبوذا في عشيرته وقبيلته يسخر منه الصغار والكبار، وكان مجبرا على أن يكون قاسيا، وأن يستخدم القوة والعنف من أجل أن ينتزع له مكانا بينهم.
ومن هذه الحكايات الفرعية، حكاية ياسر الذي كان أحد أصدقاء السارد الأب في حرب 1948. وكان محملا بالحماس لقتل اليهود المعتدين على أرض فليطين، ويريد أن يموت شهيدا. إلا أنه كان صاحب رأي، ويعتبر نفسه حرّا في التعبير عن آرائه. فهو لا يرفض إدماج اليهود في الأرض العربية، لأن العرب أمة تعيش وفق أديان مختلفة ومذاهب متعددة، والمشكل الحقيقي هو أن المخطط الصهيوني يقوم على العنصرية، و هدفه إقصاء الآخر وإلغائه. ومثل هذه الأفكار هي التي جعلته منبوذا وسط أصدقاء السلاح، ولم تشفع له بسالته وشجاعته بأن يكون عنصرا فعالا وسط مجتمعه ومحيطه.
توغّل ياسر في آرائه، وبدأ صوته يتعالى بها. ومع الهزائم وضربات العدو، كان الجنود يجدون في ياسر الشماعة التي يعلّقون عليها خساراتهم، إلى حدّ أن بعضهم كان يدعو إلى تطهير الجبهة الداخلية من العملاء والجواسيس الذين يلعبون دورا خطيرا في تحطيم الروح المعنوية للجنود.
ولأن ياسر يرفض أن يتمّ اقتياده للقتل والحرب، وأن يموت صامتا مقهورا، وهو يعتبر إسماع صوته ورأيه حقّا من حقوقه المشروعة، فقد تمّ التخلص منه. فذات صباح ذهب في مهمة قتالية مع سريته، لكنه لم يعد، وقيل إن العدو قتله وأسره، وغالب الظن أن إخوته من الجنود تخلصوا منه. وكانت النتيجة بعد اختفاء ياسر أن الجنود العرب لم يخسروا معركة فحسب، بل خسروا الحرب بكاملها.
ومن أصدقاء الحرب، كان هناك رجل اسمه جاسم الذي تعامل معه الجنود بقسوة، لدرجة أنه يتناول طعامه منفردا منبوذا كأن به جرب أو مرض معد. كان الرجل يعتنق مذهبا دينيا مختلفا، وكانت هناك تحذيرات متواصلة بعدم الاقتراب منه.
ومن هذه الحكايات الفرعية حكاية العجوز وابنها المكلفين برعاية بيت وأملاك السارد الأب. لقد كانت العجوز تعيش بين أهلها وعشيرتها معززة مكرّمة، إلا أنها لما انحازت إلى قرار قلبها وحبّها، تحولت إلى امرأة منبوذة مطرودة ومطاردة. فقد أحبّت شخصا رفضته عائلتها، لأنه من قبيلة أقلّ مكانة، ودمه كدم عشيرته غير نقيّ. وكان زواجهما مستحيلا، فقررا الفرار بحبّهما بحثا عن شرعية تظلّـل عشقهما بعيدا عن القبيلة والعشيرة. وعاشا سنوات طوالا مطاردين من إخوتها وأبناء عشيرتها، وكان دمهما مهدورا من دون حماية. ومرت السنون، ورزقها الله أولادا ماتوا جميعا إلا واحد، ومات زوجها بسبب حادثة شغل. وهي اليوم تعيش مع ابنها ترعى أملاك رجل كان، هو الآخر، ياللصدفة، منبوذا مطرودا.
لقد كانت العجوز امرأة في نعيم بجانب أبيها وإخوتها وأسرتها، ولمّـا انحازت إلى قرارات القلب، ظلّت مطرودة مطاردة، ولما استقر بها الحال أخذ القدر زوجها حبيبها، واليوم هي عجوز يأكلها الألم، فــ " ما الذي سيعوّضها شبابها وحبّها وألمها وأنينها وحزنها المتواصل."(ص 92).
في الحكايتين الرئيستين، حكاية الابن وحكاية الأب، كما في الحكايات الفرعية، لا يتعلق الأمر في كلّ مرّة إلا بحكاية منبوذ مطرود من عائلته وعشيرته، ويلعب الإخوة والأشقاء( بالمعنى الضيق، أي الإخوة الأشقاء في العائلة الصغيرة الواحدة. أو بالمعنى الواسع، أي الإخوة في العائلة الكبيرة: الإخوة في العشيرة، في العمل، في الحرب ..) الدور الفعال في هذا النبذ والإقصاء والإبعاد: الأخ الأكبر هو الذي طرد أخاه الأصغر في حكاية السارد الأب. والإخوة هم من تبرّأ من أخيهم في حكاية السارد الابن. والإخوة في العشيرة والقبيلة، من الصغار والكبار، هم من مارس النبذ والاحتقار والتهميش في حق فتى من دون سند، كما في حكاية صاحب القافلة. والإخوة الجنود هم من كان يمارس الإقصاء والإبعاد في حق جندي آخر، كما في حكاية ياسر وحكاية جاسم. والإخوة في العائلة والعشيرة هم من كان يطارد امرأة وحبيبها، كما في حكاية العجوز.
قد تتعدّد أسباب النبذ والإقصاء في هذه الحكايات، ما بين الأنانية والطمع والعصبية القبلية والتعصّب الديني والمذهبي... وهي كلها أسباب يمكن اختزالها في سبب رئيس: العائلة أو العشيرة(وخاصة الإخوة) هي كيان يفتقر إلى روح التسامح وتقبّل الآخر. ففي تلك الحكايات، حكايات المنبوذين، لاحقّ للآخر في الإرث أو الحياة أو الحبّ أو التعبير عن رأيه الحرّ، وكل من أراد أن يمارس حقّا من هذه الحقوق كان مصيره النبذ والإقصاء والإبعاد. والسؤال الذي تطرحه الرواية غير موجّه إلى المجتمع القبلي التقليدي فحسب، بل هو موجّه إلى المجتمع الحديث أيضا: " كيف لإنسان بسيط مثله(مثل المنبوذ) أن يقاوم نظرة مجتمع كامل، مجتمع نسي أثناء تكوّنه الحديث وبناء مؤسساته قيما إنسانية عالية تفتقر إلى روح التسامح وتقبّل الآخر."؟(ص 84).
وإجمالا، إن كان فضل لهذا الرواية فهو أنها تقول حكايات المنبوذين، في العائلة أو القبيلة العربية، في مجتمع عربي، قبلي عشائري، يفتقر، بالرغم من مؤسساته الحديثة أو الحداثية، إلى قيم التسامح والتفاهم والحوار والاعتراف للآخر بحقّـه في التعبير والحب والحياة.
تقول الرواية المنبوذ الذي ظلّ يواجه عائلته الأصلية(صاحب القافلة مثلا)، كما تقول المنبوذ الذي نجح في تجاوز واقع النبذ والإقصاء، وتأسيس عائلة جديدة(السارد الأب مثلا)، كما تقول المنبوذ الذي ظلّ يتردد بين المواجهة والرحيل بعيدا(السارد الابن). وبهذا المعنى، يمكن القول إن الرواية العائلية في رواية عبد الله زايد هي، على مستوى الحكاية، تجمع أو تزاوج أو تتردد بين الحكايتين: حكاية " العالم العائلي المعيش" وحكاية " العالم العائلي المعثور عليه".
3 ــ الرواية العائلية: مستوى الكتابة
إذا كانت رواية المنبوذ تتردد، على مستوى الحكاية، بين مواجهة العالم العائلي المعيش وبين الرحيل بعيدا عنه لتأسيس عائلة جديدة، فاني أفترض أن الرواية، على مستوى الكتابة، تؤسس شكلا فنيا شعريا يقول، بطريقته الخاصة، حكاية " العالم العائلي المعثور عليه ". وهذا " العالم العائلي المعثور عليه "، المتخيّل، يتأسس على قيم أخرى مناقضة لتلك التي يتأسس عليها " العالم العائلي الأصلي "، الواقعي المعيش. فالأمر يتعلق بعالم عائلي يقوم على قيم جديدة أساسها التعدد والاعتراف للآخر، المنبوذ بالأساس، بحقّـه في التعبير والحياة. والشكل الفنّي للرواية هو الحجة على ذلك بأسسه وقيمه الجمالية الجديدة التي نشير بسرعة إلى الأهمّ منها:
أ ــ الصوت السردي: تعدد الرواة والأصوات
نكتفي في هذا الإطار بتسجيل ملاحظتين:
ــ في رواية المنبوذ، على عكس الرواية التقليدية، لم يعد أمر السرد متعلقا بالسارد الواحد المهيمن. صحيح أن هناك ساردا رئيسا، إلا أنه السارد الذي لا يكتفي بإسماع حكايته وصوته فحسب، بل انه أدمج في قلبهما حكايات وأصواتا أخرى، والأكثر من ذلك أنه يسمح لشخصياته بأن تتولّـى سرد حكاياتها وإسماع أصواتها، بالشكل الذي جعل من الرواية رواية بسرّاد ورواة متعددين: الابن / الأب / صاحب القافلة / المرأة العجوز / حسين .. وكل واحد منهم يسرد حكايته بضمير المتكلم، وهو ما له دلالته، فكل واحد مسؤول عن كلامه وصوته، ولا وصاية عليه من أحد. دون أن يمنع ذلك من وجود حكايات محكية بضمير الغائب، فتعدد الضمائر له دلالته أيضا، فالرواية تقول الأنا لكنها تقول الآخر أيضا(حكاية ياسر أو جاسم، مثلا، محكية بضمير الغائب).
ويبدو كأن الرواة يتناوبون على الحكي والسرد، بطريقة تمنح كل واحد منهم حقّه في التعبير، ينتقل زمام السرد من الابن إلى الأب، ومن الأب إلى صاحب القافلة، ويعود إلى الأب لينقله بعد ذلك إلى آخرين، قبل أن يعود إلى الابن السارد الرئيس. والقاسم المشترك بينهم أنهم جميعا منبوذون في مجتمعاتهم، يسمعون صوتهم المنبوذ، ويبحثون عن حلّ لوضعيتهم ومصيرهم.
لقد تمكنت رواية عبد الله زايد من تجنّب مأزق الاحتوائية الذي تمثّل في الرواية التقليدية، بحيث تمّ الاستغناء عن السارد الواحد(بضمير الغائب) العالم بكل شيء والمتحكم في كل شيء، فجاءت محكيات الرواية مسرودة، في أغلبها، بضمير المتكلم على شكل أوتوبيوغرافيات متخيّلة، بحيث تقدم كل شخصية حياتها مكسوة بحمولات النفس وجراحات الروح وآلام الأعماق.
لقد انمحى السارد الواحد المهيمن إلى أقصى درجة ممكنة تاركا المكان لوعي شخوصه المكشوف، فلم تعد الشخصية تؤدي وظيفة " الفعل " فحسب، بل إنها صارت تأخذ مبادرة الكلام، وتسمع صوتها المنبوذ، وتكشف ألمها المكبوت، وتعبّر عن آرائها وشكوكها، وتطرح أسئلتها واستفهاماتها.
وإجمالا، فان التقليل من سيطرة السارد، وفسح المجال أمام الشخصيات لتحتلّ مقدمة المشهد السردي، وتحلّ محلّ السارد، قد سمح بإحداث شرخ في صلب أحادية السارد التقليدي ووحدانيته.
وفي كل الأحوال، فبهذا التعدد في الرواة والضمائر والأصوات تؤسس الرواية، على مستوى الكتابة، انفتاحا على الآخر، وتعلّمنا الإنصات لذلك المنبوذ المقموع في أوساطنا العائلية والاجتماعية، كما في دواخلنا وأعماقنا. وبهذا المعنى، تتحول الكتابة إلى فضاء عائلي متخيّل، حرّ ومنفتح، تتجاور وتتعايش فيه الأصوات، وتحفظ فيه حقوق المنبوذين والمقهورين، وتصان فيه حرية التعبير والتفكير والاعتقاد.
ــ في رواية عبد الله زايد، هناك حكاية إطار وحكايات مؤطرة على رأسها حكاية الأب. وأغلب الحكايات المؤطرة(وأساسا حكاية الأب مع الحكايات التي تتضمنها) هي في مجموعها مؤطّرة في إطار مونولوج داخليّ تذكّري مارسه السارد الرئيس في رحلة العودة التي استغرقت وقتا طويلا. وقد لعب هذا المونولوج التذكري دورا فعالا في بناء محكيّ بوليفوني لا يخلو من دلالة، وذلك لأن الأمر يتعلق بمحكي يسمح برصد ظواهر الانقسام والتنافر والتعارض التي تضع حدّا لأسطورة وحدة الذات المتكلمة، ففي دواخل الذات الواحدة هناك حوار داخلي بين الأنا والآخر، بين الابن والأب، بين الابن والإخوة، بين الابن وشخصيات أخرى، بين الذات والعائلة، بين الذات والمجتمع. ففي داخل الشخصية(الابن) لا يتكلم صوت واحد، بل أكثر من صوت(صوت الأب، صوت الأم، صوت الإخوة، صوت العشيرة، أصوات المنبوذين ...).
وليست البوليفونية مجرد تجاور للأصوات داخل الصوت الواحد، بل هي تقتضي أن يحيل كل صوت على الصوت الآخر، وأن يحصل الاحتكاك بين الأصوات، وأن يفرز الاحتكاك رؤى متعارضة غير متطابقة: رؤية السارد الابن/ رؤية السارد الأب/ رؤية صاحب القافلة/رؤية الإخوة/رؤية القبيلة والعشيرة...
وإجمالا، فان بوليفونية المونولوج التذكّري تسمح في رواية المنبوذ بأشياء من أهمها: أنها تترجم علاقات الشك والارتياب التي تطبع موقف الشخصية(الابن) من ذاتها كما من العالم والآخرين، فالحقيقة لا يملكها صوت واحد، بل الأصح أن الحقيقة لا تكون إلا بين صوتين على الأقل، يتحاوران ويتجادلان. ولا ينبغي أن نغفل أن حكاية الأب هي أصلا حكاية سردها الأب في الزمن الماضي على ابنه(وهو بذلك مسرود له)، وهي حكاية يستحضرها الابن اليوم في فكره الداخلي، كأنه يريد أن يحاور أباه ويجادله بطريقة أو بأخرى.
ويسمح المونولوج التذكّري بأن نكون أمام الذات وذاتها الأخرى، بشكل يجعل من الرواية ما يسميه برنارد بانغو لعبا ماهرا في منطقة بينية ملتبسة تقع بين المثيل Le Même والآخر L Autre. وأهمية هذا اللعب أنه لا يكتفي بإسماع الصوت المثيل، بل انه يعمل من أجل أن ينزلق الآخر إلى قلب التخييل.
ب ــ البنية السردية: منطق التجاور والتناظر
أول ما يلفت انتباه القارئ هو نوعية البنية السردية في رواية المنبوذ، فالنص الروائي لم يعد خاضعا لذلك الإحكام السردي المألوف في الروايات التقليدية، بل هو يقوم على التأطير والتنضيد، على التقطع والتفكك، على التوالد والتكاثر ... بشكل يجعلها أقرب من بنية ألف ليلة وليلة.
يتكون النص الروائي من محكي إطار ومن محكيات مؤطرة، وتؤلف في مجموعها محكيا يحكمه منطق التجاور والتناظر أكثر مما يحكمه منطق التسلسل والتتابع. ففي رواية المنبوذ، نكون أمام نص سردي يعدّد المحكيات، ويستحضر محكيا داخل محكي آخر، ويستخدم المحكيات كمرايا وعاكسات، ويوظّـفها كتضعيفات تخييلية. ويفرض هذا المنطق الجديد أن نحتكم إلى لعبة المرايا، فالمحكيات المتعددة المتجاورة المتناظرة هي مرايا يعكس بعضها البعض الآخر، وكل محكي هو إعادة إنتاج جزئية أو كلية للمحكي الآخر. وهذا ما يجعل هذا المحكي المتعدد ينتمي، في مجموعه، إلى مجال المشابهات النصية، وهو المجال الذي يدرك على أنه مناقض للمحكي التقليدي الواحد الموحّد، ذلك لأنه محكيّ جديد يقوم على التعدد والتكاثر والتوالد والانفتاح على الآخر.
انه بعبارة أخرى، نص سردي لا يقوم على مقولة الوحدة في معناها التقليدي، وحتى إذا كانت هناك وحدة، فهي تقوم على التعدد لا الأحادية، على التكاثر والتوالد والانفتاح على الآخر.
في رواية عبد الله زايد لم تعد البنية السردية خاضعة لذلك الإحكام السردي المألوف، ولم تعد محكومة بمنطق التتابع أو التماسك بالمعنى السائد في الرواية التقليدية، قدر ما هي تتأسس على منطق جديد: منطق التجاور والتناظر، فالرواية تتكوّن في الغالب من محكيات متجاورة قد تتحدث عن الشيء نفسه، لكن من منظورات متمايزة، مما يجعل المحكي الواحد في تناظر مع المحكي المجاور. فنحن أمام بنية سردية تحكمها علاقات التجاور والتناظر عامدة إلى التخلّي عن الوحدة التقليدية، وذلك بإقامة مجموعة من علاقات التجاور التي ترهف الجدل بين المتناظرات. وهي بهذا ليست بنية خطية تتابعية أحادية الصوت، بل هي بنية دائرية يعتمد نمو السرد فيها على منطق التتابع الكيفي وجدل المتجاورات وتعدد الأصوات.
ج ــ النوع الأدبي: تعدد الأجناس والأنواع الأدبية
في رواية المنبوذ، يترجم التعدد والانفتاح على الآخر من خلال انفتاح النوع الأدبي الواحد على الأنواع الأخرى: هكذا يأتي النص الروائي، من ناحية جنسه ونوعه، منقسما مزدوجا متعدّدا، إذ يمكن اعتباره، في أغلبه، محكيا أوتوبيوغرافيا، فالمحكي الإطار وأغلب المحكيات المؤطرة هي محكيات بضمير المتكلم تنقل حياة السارد الشخصية أو جزءا منها، كما يمكن اعتباره محكيا روائيا، ذلك لأن الأمر يتعلق بأوتوبيوغرافيات متخيلة، والكاتب صنّف عمله في جنس الرواية لا الأتوبيوغرافيا. والأصحّ أن نقول إننا أمام نص يريد أن يكون أوتوبيوغرافيا وروائيا في الوقت نفسه، فالأوتوبيوغرافي والروائي يتلاقيان ويتعايشان، يتحاوران ويتجادلان، يتداخلان ويتشابكان.
وإذا نظرنا إلى المنبوذ مـن هذا المنظور، فانه يمكن أن نقول إننا أمام نص هجين، روائي ــ أوتوبيوغرافي، يبطن لذة خاصّة، يسميها بعض الدارسين المعاصرين لذّة التدمير: تقوم الرواية الأوتوبيوغرافية على أساس تدمير الحدود بين جنسين أو أكثر، وهذا ما يمكن اعتباره برنامجا جديدا للكتابة، بحيث تقوم على حوار بين أجناس سردية متعددة، ولا تكتفي بالانتماء إلى الجنس الواحد.
وجملة القول، فالقارئ يجد نفسه مأخوذا داخل نص متعدد الجنس، يجمع بين الروائي والأتوبيوغرافي، ويكسّر الحدود المألوفة بين الرواية والأتوبيوغرافيا، أي بين التخييل والتحقيق.
ويظهر تكسير الحدود بين الأجناس الأدبية على مستوى آخر، فالنص الروائي ينفتح على جنس الشعر، فمقاطع شعرية عديدة تتخلل النص السردي، والأكثر من ذلك أن النص الشعري قد يعيد، بطريقته الخاصة، إنتاج حكاية من حكايات النص. فعلى سبيل التمثيل، نجد السارد الأب يحوّل حكاية العجوز بعد سماعها منها إلى "قصيدة" شعرية طويلة، نختار منها هذا المقطع:
هنالك بين تلك السهول ستبكي امرأة الغد القريب
أيام الذبول
وأوقات السواد الرهيب
وستقول: أفتقدك يا طفلي الجميل!!
هنالك بين تلك الجموع امرأة الوعد الحزين
وتاريخ الموت الرهيب
سيسجل بكاءها والأنين
وأنها يوما دعته لفراشها الوثير
هنالك حيث يضحك الخائفون
والبؤساء
والمتعبون
...(ص ص 92 ـ 93).
والى هذا الجمع بين السرد والشعر، ينضاف نوع آخر قد لا نستسيغ حضوره في النص الروائي: الخطابة، فالنص يتحول أحيانا إلى خطبة تقريرية سياسية مباشرة، ويمكن أن نلاحظ ذلك في كلام حسين كما في كلام صاحب سيارة الأجرة.
وعلى العموم، فالروائي السعودي عبد الله زايد يجمع في النص الروائي الواحد بين أجناس وأنواع وأشكال متعددة ومتنافرة، ويعمل من أجل أن تنصهر وتذوب في بعضها البعض، ويتحول النص الروائي بذلك إلى نصّ هجين، يرفض الارتباط بالقيمة التي كانت لـ"طهارة" الجنس الواحد وصفائه ونقائه، فهوية النص لا يمكن أن تكون إلا هجينة مركبة متعددة، ذلك أن اللاتجانسية أي التعايش هو ما يشكّل الواقع، واقع الإنسان كما واقع الكتابة.
4 ــ تتردد رواية الـمـنـبـوذ، على مستوى الحكاية، بين مـواجهة الـعـالـم الــعائلي المعيش وبين الرحيل بحثا عن عالم عائلي جديد. إلا أنها تؤسس، على مستوى الـكـتــابــة، " العالم العائلي المعثور عليه "، المتخيّل والمرغوب فيه: عالم عائلي يقوم على التعدد والتجاور والتعايش والانفتاح على الآخر، عالم عائلي لا يقوم على النبذ والإقصاء، بل يتقبّل الآخر، وتستعيد فيه الذات المنبوذة صوتها الذي كان مغيبا وراء الخطابات القاهرة الآمرة، فيصير بإمكانها الحكي والبوح، الشك والسؤال، النقد والسخرية، وهي بذلك تستعيد وتمارس إنسانيتها التي صادرتها العائلة والعشيرة.
تقول رواية عبد الله زايد جراحات المنبوذين وآلامهم، والألم هو الذي يكشف أشياء عديدة عن طبيعة الأدب ووظيفته: ما سبب وجود الأدب؟
يبدو أن الآلام الكبرى التي يعيشها الإنسان عبر تاريخه الشخصي أو الجماعي تجعل من الأدب شيئا ضروريا. فالأدب في مجموعه يكاد يكون سجلا من الجراحات والآلام التي تأتي من مجرد التواجد في العالم، والأدب وحده من يتقن الإنصات إلى المجروحين والمتألمين، إلى المهمشين والمقصيين، إلى المطرودين والمبعدين، وهو وحده يستطيع أن يوقظ فينا، نحن القرّاء، التعاطف مع الآخر، مع ذلك المنبوذ في أوساطنا العائلية والاجتماعية.
ومن هذا النوع من الأدب الروائي، يمكن أن نستمدّ أسباب الحياة والأمل، ذلك لأنه الأدب الذي يحتفي بإنسانية الإنسان، وينحاز إلى قيم التسامح والاعتراف للآخر بحقّه في التعبير والتفكير، والحب والحياة.
وبهذا النوع من الأدب، يمكن أن نطور مناهجنا وطرائقنا في الكتابة، ذلك لأن الرواية عندما تكون من صميم الألم، فان الألم لا يؤزّم الذات فحسب، بل انه يعمل على تأزيم الكتابة أيضا، فهو يفرض إعادة النظر في العلاقة بالعالم والآخرين، ويدفع إلى التجاوز، ويرمي بالكتابة نحو حساسيات ومسالك جديدة قد تكون غير مستكشفة من قبل.
إشارات:
ــ عبد الله زايد: المنبوذ، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، 2006.
صدرت رواية المنبوذ في طبعتها الأولى باللغة العربية سنة 2005، وصدرت طبعتها الثانية سنة
2006، كما ترجمت إلى اللغة الاسبانية.
ــ عبد الله زايد كاتب سعودي معاصر، متخصص في الدراسات الاجتماعية، يعمل في مجال الصحافة
والإعلام، أصدر كتابين: " الجرح الآخر"، وهو عبارة عن شهادات صحفية من مخيمات اللاجئين في
كشمير. وكتابه الثاني: " لأنك إنسان " عبارة عن رسائل إنسانية في شكل قوالب قصصية أو مقالات
أو خواطر. و " المنبوذ " هي روايته الأولى. أصدر بعدها روايته الثانية: " ليتني امرأة ".وقد منعت
هذه الرواية مؤخرا من المشاركة في معرض الرياض للكتاب، لأنها تنتقد المجتمع الذكوري الذي
يجرد المرأة من إنسانيتها، مع أن المرأة وحدها من يصون باستمرار القيم الإنسانية النبيلة. ويبدو كأن
مصير عبد الله زايد الكاتب هو مصير شخصياته في رواية المنبوذ: وجد كتابه: المنبوذ مبعدا ممنوعا
في بلده ومجتمعه، ومقبولا مرحّبا به خارج وطنه الأصلي!
ــ مارت روبير: رواية الأصول وأصول الرواية، الرواية والتحليل النفسي، ترجمة وجيه أسعد،
منشورات اتحاد كتاب العرب، 1987.
من كتابة: الــروايـــة والـتـحـلـيـل الــنــفــســــي
قـراءات من منظور التحليل النصي