بقلم: نصر الدين لعياضي
حدثني بمرارة فقال: أردت أن أهنئ وأبارك نجاح أحد أطفال عائلتي في امتحان الانتقال إلى مرحلة التعليم التكميلي. فحملت معي مجموعة ثمينة من الكتب التي لا يقل سعرها عن سعر أي جهاز إلكتروني من النوع الذي يزهو أطفال اليوم باللعب به. وقصدت بيته. لقد اعتقدت، صادقا، أن الطفل في هذا السن لابد أن يسعى إلى تشكيل مكتبته الخاصة. ويردف قائلا: ليتني ما فعلت، ليس لأن لا أحد عبأ بالهدية، بل لأنها تحولت إلى أضحوكة على ألسنة أفراد عائلتي!
أعتقد أن أصحاب ديار النشر سيجدون في هذه الحكاية حجة لصحة مقولة ''أمة اقرأ لا تقرأ'' وإن كانوا، في حقيقة الأمر، لا يحتاجون إلى حجج إضافية لتأكيد هذا الواقع. وربما سيتّخذ بعضهم من مثل هذه الحكايات ذريعة للتملص مما آل إليه وضع الكتاب والقراءة في المجتمع.
ومن يحاول تبرئة الناشرين من تراجع مكانة الكتاب في المجتمعات العربية، فليتمعن في الأمثلة الثلاثة التالية والتي تعبر عن وقائع، والوقائع عنيدة كما يقول الفرنسيون.
المثال الأول: يسرد الكاتب السعودي عبد الله زايد قصة نشر روايته الموسومة ''المنبوذ'' قائلا: عرضت روايتي على دار نشر عربية، فطلبت مني ثلاثة آلاف دولار أمريكي (حوالي 260ألف دينار جزائري) لنشرها، فرفضت لأن أولادي أولى بهذا المبلغ. ويضيف قائلا: عرضتها على شخصية أدبية مشهورة في مجال الرواية والشعر لكتابة مقدمة لها لعلها تشفع لي المرور إلى الطبع المجاني، لكنه اعتذر دون أن يقرأها. وبقيت الرواية سجينة الكمبيوتر إلى غاية اليوم الذي سألتني فيه إحدى الصديقات المقيمة بإسبانيا عن إنتاجي الجديد، فأرسلت لها المخطوط للاطلاع عليه لا غير.. فقامت بترجمة بعض صفحات الرواية إلى اللغة الإسبانية، وعرضتها على الروائية الإسبانية ''روسا ريفاس''، مديرة المكتبة الوطنية في مدريد، فتبنتها وكتبت مقدمتها ونشرتها باللغة الإسبانية! بعدها صدرت باللغة العربية، ودفع الناشر تكاليفها. فلولا اللغة الإسبانية ما كان لهذه الرواية أن ترى النور. والطريف أن بعض النقاد اعتبروا أن الرواية كتبت باللغة الإسبانية، ثم ترجمت إلى اللغة العربية! والخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذا المثال أننا بحاجة، دائما، إلى جهة أجنبية لتزكي إنتاجنا حتى نقتنع بجودته.
المثال الثاني: تذكر الأديبة الجزائرية ياسمينة صالح أنها عرضت روايتها ''بحر الصمت'' على أحد الناشرين، فكان رده ''آسف! الرواية لا ترتقي إلى الطبع!''. لكن بعد سنة من هذا الرفض، فازت الرواية المذكورة بجائزة مالك حداد. وحققت في دار الآداب بلبنان أحسن المبيعات العام .2002 قد يقول قائل إن الأمر عادي جدا والمسألة مسألة تقدير يختلف من شخص إلى آخر، فالكثير من الروائيين والكتاب العالميين جوبهوا برفض إنتاجهم الذي أصبح من العلامات الفارقة في الأدب والفكر. لكن غير العادي أن الناشر الذي رفض رواية الأديبة ياسمينة لم يقرأها أصلا ولم يعترف بذلك إلا بعد عشر سنوات! حسب زعم الأديبة ذاتها. والسؤال المطروح هل من المنطقي أن يحكم ناشر على إنتاج أدبي بالإعدام دون أن يقرأه؟
المثال الثالث: تقول د. ميسون البياتي، أستاذة التأريخ إنها شعرت برغبة مفاجئة في زيارة الجناح العربي في مكتبة جامعة أوكلاند الأمريكية، بعد انقطاع دام عدة سنوات. وبعد تفقد مقتنياته الجديدة من الكتب، لاحظت وجود كتاب بعنوان: ''صدام حسين من الميلاد إلى الاستشهاد'' من تأليف روبرت فيسك، الصحفي البريطاني المشهور والمختص بشؤون الشرق الأوسط. الكتاب يحمل رقم إيداع 11802 للعام 2007، ومن إصدار دار إبداع للنشر والتوزيع. وتردف المتحدثة قائلة: ساورتني شكوك حول الكتاب المذكور، لأن روبرت فيسك لا يستعمل مصطلح الاستشهاد وأن أسلوب الكتاب ليس أسلوبه. فنزلت إلى الجناح الإنجليزي ووجدت كل الكتب التي ألفها روبرت فيسك ماعدا الكتب المذكور. وتضيف قائلة: استعنت بأصدقائي في مصر للعثور على صاحب الدار والمترجم. فجاء الرد الذي صدمني: إن الكتاب المذكور من إنتاج صاحب دار نشر اختص في جمع الأموال بالضحك على ذقون القراء، من خلال نشر كتب منسوبة زورا إلى شخصيات في عالم الأدب والسياسية والصحافة والدين والفن. وقد سافر الصحفي روبرت فيسك ذاته إلى مصر لفهم خلفيات موضوع الكتاب، فداخ في البحث عن الناشر المزعوم، لأن عنوان دار نشره الذي أودعه لدى السلطات المعنية هو عنوان مسجد قديم!
قد يقول أحدهم من المتفائلين إن هذه الأمثلة تمثل حالات شاذة. والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. فنتمنى ذلك وإن كنا نخشى أن يتحول الشاذ، في ظل الأوضاع المتردية التي تعيشها المنطقة العربية، إلى قاعدة وتتحول هذه الأخيرة إلى حالة شاذة.
لقراءة المقال من المصدر المباشر اضغط الرابط التالي: http://www.elkhabar.com/ar/culture/300864.html
Comments