top of page

آليات النبذ و استراتيجيات القبيله

                                                         بقلم : وحيد بن بوعزيز

 

إذا حاولنا تلخيص رواية المنبوذ للكاتب السعودي الشاب عبد الله زايد، فهي رواية توقّع بيانا نقديا عميقا ضد القبيلة، وعلى الرغم من أن هذا الموضوع كان محل دراسة وبحث واجترار، إلا أن إعادة تناوله، في هذا الظرف بالذات، يعد بمثابة مراجعة وإعادة وضع الإصبع على الجرح؛ لأن سحر الخطابات الفكرية والحداثية المتواجدة الآن في الساحة العربية، ما يفتأ أن يتبخر أمام شمس الواقع، ورواية المنبوذ تعد واحدة من شموس التعرية؛ تعرية وهم الخطابات السرابية والمتعالية.جاءت رواية المنبوذ في 183 صفحة من طبعتها الثانية، ونال هذا العمل تقديرا في أسبانيا، بحيث احتفي بها في المكتبة الوطنية الإسبانية، من طرف الروائية روسا ريغاس، كما تمت ترجمتها إلى لغة سرفانتيس في دار "دون كيشوت".تحكي الرواية قصة جيلين، جيل مرحلي عانى كثيرا من المجتمع القبلي البطريكي، حيث تهيمن لغة الأبيسية بأوديبية معقدة وصارمة، وجيل، ما بعد البطريكية، فتح عينيه في زمن جديد، فوجد ذاته مشدودة إلى غائية المستقبل ومكبلة بوجع في لاشعورها الجماعي، حيث وشم الذاكرة المرير لا يزال مرتسما ومحفورا. جسد الأب كشخصية محورية، تجربة الجيل الأول، جيل النقلة، كما جسد الابن تجربة الجيل، الذي بدأ يدخل في متاهات الحسابات الفاشلة والخطابات المفلسة، المتعكزة على تغيير المظاهر دون الأعماق، وإنشاء بنى تحتية فارغة من البنى الفوقية.وجد الأب/الطفل نفسه في أزمة مع أخيه الأكبر، الذي حاول الاستيلاء على كل الميراث، بحجة صغر وقصور أخيه، لدرجة طرده من البيت والبلد، وتم تبرير هذا الطرد بحجة تعليم هذا الشقيق الصغير شقاوة الحياة وبؤسها، كي يصبح رجلا ويشتد ساعده في مواجهة الخطوب. لكن يتضح من مساقات النص بأن هذا السبب كان بمثابة ذر الرماد في العيون، فالجشع والطمع وإرادة القوة والتحكم بالنذرة (كما يفهمها فرويد في نظرية أوديب)، كل هذه الأسباب كانت مطية لتنظيم أسرة بطريكية، تقوم على الأحادية في توزيع الأدوار والهرمية في تحديد علاقات القوى.بدأت لحظة النبذ، حينما قرر الأب/الطفل مغادرة العرين الجديد، وهنا ستتكرر قصة يوسف النبي كتناص في عود أبدي، حينما يهم أحد الرعاة بإنقاذ الطفل وتربيته أحسن تربية، وإرساله إلى فضاء يزحف فيه الإسمنت، إنه فضاء المدينة، حيث الغربة والاستلاب والداروينية ضاربة أطنابها.تشاء العناية السماوية أن يصبح الأب/ الطفل قويا بانخراطه في الجيش، وتشاء الصدف أن يبدأ مسلسل فجائع الموت مع بداية هذه القوة، بدأ الأمر بموت الشقيق الأصغر ثم أخذ الوباء الشقيق الأكبر، المتسلط، مع أهله ودويه، ثم يكتشف أن الراعي العجوز وزوجه مقبوران بقرب منزلهما، حتى قائد القافلة، الذي أشفق عليه الأب/الطفل لأنه لقيط، قضى نحبه في صمت.لم يتوقف موتيف الموت على التحكم في ثنايا النص، فبعدما استعاد الأب أرضه، وتزوج، افتقد زوجه وابنته في طاعون آخر اكتسح المنطقة بسبب الجفاف، وبعد هجرته إلى المدينة، افتقد كذلك زوجه الثانية وطفلا:حسين من زوجته الثالثة.تعد تيمة الموت محورية في هذه الرواية، ويرجع هذا، حسب اعتقادنا، إلى روح سوداوية طغت على النص، رام من خلالها الراوي اللعب على الانفعالات العميقة لاستجلاب ولشد القارئ وفق مبدإ التطهير (الكاتارسيس: الذي جعله ارسطو طريقة كي يتماهى المشاهدون مع موضوعات الدراما).إذا كان الأب تشخيصا لمرحلة النقلة في مجتمع بطريكي، فإن الابن، يمثل وجعا وألما ارتداديا لهذه النقلة. حاول الروائي عن طريق هذه الشخصية أن يبين شيئا جوهريا في ثقافتنا العربية، يكمن في أن ما يسميه السوسيولوجيون والمحللون النفسيون والمفكرون بمجتمع ما بعد البطريكية، لا يغدو أن يكون وهما أو بحتا عن الغراب الأبيض!، بينت الرواية بطريقة تشريحية، بأن التغيرات مست وطالت السطوح فقط، ولم تقشر وتخترق الأعماق، لأن البنية القبلية ما زالت مستبدة بعقولنا، ولعل شخصية الابن، في علاقتها المعقدة، وفي صراعها ضد آليات التحجر وإجراءات التقليد، أحسن دليل على أن الدينامية القبلية، القائمة على النبد والإلغاء والإقصاء، مازالت تشتغل كمحرك للعقلية العربية؛ شعر الابن، متأسفا، بأنه نسخة مكررة لوجع أبيه، وامتداد حتمي للعنته وغربته. يتبدى هذا حينما نتأمل مليا النهاية التي اقفل بها النص، فهي البداية التي ابتدأت بها قصة الأب/الطفل؛ أخوة يوسف دائما يجتمعون لقهر شقيقهم الضعيف، يجتمعون لرميه في يم الوجود!.تمفصلات الخطاب واستراتيجية التلقي:كتبت رواية المنبوذ بطريقة عالمة، بحيث لا نجد ارتباكا أو خللا سرديا، لهذا، يبدو أن صاحب الرواية يعد من القراء الأذكياء للسرود بأنواعها ومن الواعدين، وما دام الناقد لا يمكنه البتة محاسبة الكاتب، مهما كان، على اختياراته، مثل الاستعانة بالسرد التقليدي المنتظم أو الحداثي المفكك، فإننا سنركز على تتبع مسارات اختيار الكاتب ومحاسبته وفق اقتضاءات اختياراته الخاصة في حد ذاتها.اختار الكاتب أن يكتب نصه بطريقة كلاسيكية، مستعينا في ذلك بتقنية الفلاش باك وآلية التسريد الخطي؛ فلو نقرأ الرواية فإننا نجدها تتفتح على وقع سماع الابن البعيد عن الأهل منذ مدة، خبر مرض أبيه. لم يستطع هذا الابن الحصول على تذكرة ركوب الطائرة، فهمّ مسرعا بأخذ الحافلة، وهنا تبدأ حالة استذكارية (فلاش باك)، بحيث يترك الراوي الكلام للأب انطلاقا من صفحة 17 إلى غاية صفحة 125.لو نقوم بحساب نسبي فإننا نجد بأن هذا الاستذكار قد أخذ حيزا كبيرا من الفضاء والزمن السردي: 59.02% على حساب الحدث الرئيس، أو ما يسميه السيميائيون السرديون بالبرنامج السردي الأصلي. يفسر هذا العنصر طغيان الأفعال الماضية في النص، كما يفسر من جهة أخرى، الترهل المبتوت في ثنايا النص كذلك. كما لا ننس بأن هذه الآلية الاسترجاعية الأم، حبلى هي كذلك باسترجاعات صغيرة، فكل شخصية كانت تحكي ما وقع لها عن طريق ما يسمى بالاسترجاع الداخلي. فيما يخص التسريد الخطي، فإن الكاتب كان يحاول، كذا مرة، إعطاء الأسباب لتبيين حركية التطور، فالقارئ يتسطيع أن يحدد بسهولة نقطة البداية ونقطة النهاية. يجرنا هذا إلى الاستنتاج بأن الكاتب لم يشتغل كثيرا على الكتابة الانشطارية أو الشذرية.إن حاول الكاتب الالتزام بطريقة كتبت بها كثيرا الروايات المقابلة للسرود التجريبية، فإنه استعمل آلية حداثية حصيفة يطلق عليها آلية التعدد الصوتي (البوليفونية)، أي أن الشخصيات هي التي تتكلم بعدما كان، في الرواية التقليدية، يتكلم في مكانها. إذ يرى الناقد الروسي ميخائيل باختين في دراسته لتطور الأساليب في كتابه: الماركسية وفلسفة اللغة، وفي مقاربته الرائعة لنصوص ديستويفسكي من كتاب شعرية ديستويفسكي، بأن الحوارية المجسدة عن طريق البوليفونية تزامنت وتعاصرت مع لحظة أفول العقلانية الشمولية في الفكر الغربي.ولقد أفلح صاحب كتاب المنبوذ كثيرا في استعمال هذه التقنية، لأنها تقنية تتماشى مع موضوع نصه، فكأن الراوي الذي يعاني من النبذ والإقصاء لم يرم القيام بالشيء نفسه في مستوى ميتانصي.!يعترف باختين، ويقر في كثير من الأحيان، بأن البوليفونية آلية نصية معقدة ومتشابكة، لم يكن لينبري لها سوى ديستويفسكي، لأنها تتطلب وعيا اجتماعيا لغويا حادا، فليس من السهل أن نستنطق النجار والحداد والمثقف والمرأة والطفل دون القيام بعملية أسلبة (إضفاء بصمة أسلوبية على الصوت)، أي، بطريقة أخرى، ليس من السهل أن يتملص الكاتب من ذاته كي يتقمص شخصية أخرى في وعيها الاجتماعي ونبرها اللغوي.لهذا إن كانت رواية المنبوذ قد أفلحت إلى حد كبير في اختيار البوليفونية كموقف من العقلية القبلية الأحادية، فإن البوليفونية فيها تحتاج إلى عملية تنبير (من النبر) أو أسلبة، وأحسن مثال على ذلك أن القارئ يكتشف بسهولة بأن الذي يتكلم على لسان الأب ليس هو الأب في حد ذاته ولكن الراوي المضمر، فلو انطلقنا من الوضعية الثقافية والإيديولوجية التي حصر فيها الراوي الأب؛ إذ تم وصفه كذا مرة أنه أميّ، لم يعرف آية من القرآن أو الحديث، لتعجبنا كيف يصل مستواه في الصفحة 122/123 إلى درجة عالية، بحيث نجده يتكلم عن فلسفة القانون والمجتمع المدني والترسبات الفئوية والقبلية. يمكن أن نستنتج بأن إيديولوجية الكاتب طالت كل شخوصه وكأننا أمام رواية أحادية الصوت.إذا وصلنا إلى استراتيجية القراءة والتأويل، فإن القارئ في هذه الرواية، يعدا منبوذا بامتياز!، فالكاتب اهتم كثيرا باستراتيجيات البث وآليات اشتغال الرسالة الجمالية في هذا النص، ونسي بأن هنالك عنصرا عضويا في بناء جمالية النص، ألا وهو القارئ، فكيف يتسنى له ذلك؟يساهم القارئ في بناء جمالية النصوص الأدبية، كما يذهب الناقدان الألمانيان ياوص وأيزر والبحاثة الإيطالي أمبرتو إيكو، عن طريق عملية التعضيد أو المساعدة، فالنص عبارة عن آلة كسولة، يحتاج من يملأ فراغاته ويسوّد بياضاته ويستنطق مسكوتاته ويستكنه مكنوناته، لهذا حينما يكتب أي كاتب نصا جماليا، كان لزاما عليه أن يراعي اللعبة التي يتسنى بواسطتها للقارئ استنطاق النص كما يتبع الشرطي اللص! كي ينجح نصه.رواية المنبوذ نبذت قارئها عن طريق آلية الحشو التي تساهم في قتل البياض، ويتبدى هذا الحشو في عدة مستويات، سنذكر منها مستويين فقط؛ الأول ما يمكن أن يطلق عليه مستوى المتتاليات السردية، إذ نجد أن النص مليء بالعناوين الفرعية الدالة على كل جزء أو متتالية، وهذه العناوين، كان من الأحرى، تركها لأن بتركها يتولد الغموض عند القارئ، والغموض شرط محوري في السيرورة الجمالية.ثانيا ما يمكن أن نطلق عليه الحشو الجملي أو التركيبي، وهو مليء في النص سنعطي ثلاثة أمثلة تدل عليه.- جاء في ص 107 من النص، ضمن سياق التماس الأب من العمة أن تعتني بولديه كما اعتنى بولدها" إنها تشعر بالامتنان تجاهي وتجاه ما قدمته من معروف لها ولطفلها، لذلك تجدها فرصة لترد جزءا من معروفي وجميلي. علما بأن ما قدمته كان واجبا خالصا" انتهى. هذا الحشو ليس مبررا في هذا المقطع، لأن اقتضاءات النص تستلزمه.- جاء في صفحة 113 إثناء الحديث عن أبي خالد: :مد لي يد العون دون سابق معرفة، ودون وساطة مؤدية أو غير مؤدية، إنه تعاطف إنسان مع أخيه الإنسان، بكل بساطة وبدون تعقيد، مثال إبي خالد مثال إنساني نادر جدا..." نلاحظ بأنه بمجرد أن يمد لنا إنسان يد العون فهو فعل إنساني، لا نحتاج كي ندلل على ذلك، لأن الأمر مرتبط بتحصيل المحصول.- في صفحة 129 يروي الراوي حدث التقائه مع حسين في الحافلة، فنجد إيماءة جميلة في سياقها، إذ نفهم بأن إجابة حسين، عن سبب عدم تشغيل التلفاز والفيديو في الحافلة يرجع إلى بعض المعارضين المتشددين، للأسف يفسد الراوي هذا التعضيد حينما يؤكد الاقتضاء:" لماذا لا نسمع موسيقى أو نشاهد فيلما رغم أن الحافلة مجهزة بتلفزيون وفيديو؟ أجابني قائلا: انظر إلى مقدمة الحافلة جيدا. سألته إلى ماذا يشير؟ فقال مستغربا: ألست من هذا المجتمع؟ ... فبالرغم من أن هذه الحافلة مجهزة بتلفزيون وفيديو، إلا أنها مطفآن، ويعود ذلك لاعتقاد بعض الفئات الدينية بتحريم الموسيقى..." لا يحتاج القارئ إلى كل هذه التفسيرات، لأنها ستقتل عنصر التشويق، وستبدد لعبة إخفاء السر، التي تعد رأسمال كل كاتب يحاول أن يصل إلى مستوى جمالي راق.يبقى، رغم كل شيء، أن هذا النص جاء في آوانه، على الرغم من استثماره لموضوع استهلك كثيرا، فالدراسات الأنثروبولوجية العربية الحديثة، تبين بأن العقلية العربية ما زالت رهينة البنية القبلية، الضاربة بجذورها من الأسرة إلى الدولة.وأظن أن النص بيّن شيئا مهما، لتأكيد ترسب هذه العقلية وتجذرها، حينما عالج آلية النبذ، التي تعد الرئة التي يتنفس بها العقل القبلي والمجتمعات المتخلفة، فالنبذ والألغاء لم يطل فقط الأب أو الجد، بل اخترق الابن، الذي يعد رمز المجتمع الحديث، بل طال المرأة والطفولة والشيخوخة واللقطاء والمرضى والضعفاء. ما زالت آلية النبذ تبين لنا بامتياز بأننا نعيش نفاقا اجتماعيا ومحسوبيات ومظاهر خادعة وهيمنة والكذب على الذات.في الأخير، نستطيع أن نقول بأن رواية المنبوذ هي سقوط لورقة التوت في مجتمع ينبذ ذاته من حيث ينبذ غيره، لأنها شمعة في دهاليز القبيلة.!

--------------------------------------------------------

لقراءة الخبر من المصدر اضغط الرابط التالي

:http://www.alwarsha.com/articles/%D8...8A%D9%84%D8%A9

bottom of page