top of page

المنبوذ و رواية الحكايات المتشظية

                                                          عبد الهادي سعدون

 

قليلة هي الروايات التي تصلنا بين حين وآخر موقعة من كاتب من العربية السعودية، لطالما عرفنا إن الإنجاز الأدبي في هذا الحقل من الفن الحكائي و في هذا الجزء من الخليج العربي يكاد يكون نادر الحدوث، أو أنه لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في نتاج العام. نحن لا نتحدث عن العالم الروائي مثلاً في مصر أو لبنان أو سورية أو حتى العراق في السنوات الأخيرة، فالرواية لم تصبح حتى وقتنا الحاضر جزء متميز من الحركة الأدبية في الخليج العربي، واقل منه في السعودية. لأعترف أنني في الفترة الأخيرة كنت على إطلاع دائم على الحركة الشعرية في هذا البلد وما صاحبها من حركة نقدية فكرية مهمة تتعلق في مسائل الدراسات والظواهر الحداثوية في الأدب والفكر مما يسترعي الانتباه والإعجاب. إذن هل من الممكن اعتبار ظاهرة التوسع والانطلاق في كتابة ونشر الأعمال الروائية منطقية في هذا الشأن نتيجة لكل هذا النشاط الدؤوب غير المبرمج؟ من هنا تنتابنا حالتان إزاء قراءة متفحصة لهذا النتاج الأدبي وهما: مدى أهمية هذا الإنجاز ضمن الحركة الأدبية ككل؛ وثانيهما عن تأثيراته في الوسط الأدبي وبالتالي التركيز على المؤثرات التي أدت لهذا العمل؟ من خلال قراءتي للعمل الروائي الأول للكاتب عبدالله زايد وهو رواية (المنبوذ) أكاد أقف على أكثر من مؤشر لظاهرة صحية ولموقف أنساني من الممكن أن يجد له مكانة مهمة في الرواية العربية، وبالتالي فهم الموقف من العالم والمشاركة فيه من خلال حكاية محلية تحيط بأغلب ظواهر المنطقة وتحاول تفسيرها والتركيز عليها. على الرغم من أن عبدالله زايد ينشر هنا عمله الروائي الأول، إلا أننا لا يمكن أن نعتبره جديداً على الوسط الأدبي فقد كتب في المقالة الصحفية والقصة القصيرة، كما نشر قبلها كتابين في مجال تخصصه الصحافي وهما (الجرح الآخر) و (لأنك أنسان). ولكن (المنبوذ) بوصفها عمله الروائي الأول تكاد تشكل عنصر مفاجأة من خلال الرؤية الشاملة التي تحيطها والتي تلم بجوانب إنسانية كبيرة مما يقربها بشكل وبآخر بمثابة نص جمعي يتناوب على تناول مواضيع متفرقة متشعبة تصب في قالب واحد من خلال بطل الرواية، العنصر المركزي الذي منه تنطلق الحكاية لتحيط بكائنات عديدة وظروف متنوعة وأزمنة طويلة. ولكن على أية حال تتشعب كل الحكايات لتعود وتصب في صلب الحكاية المركزية التي ابتدأ بها الروي. رواية المنبوذ تبتدئ بحكاية قصيرة عن شاب يتلقى مكالمة هاتفية من شقيق له يخبره بضرورة الإسراع للمجيء لرؤية الأب المريض. الشاب يحاول الوصول بسرعة لتوجسه من شيء خطير قد حصل لأبيه. في هذا الظرف الغامض، والوضع الذي يمكن أن يصيب أي من البشر، تنطلق الحكاية من خلال رحلة العودة للشاب في محاولة للوصول لبلدته ولقاء أبيه. في الطريق تتوارد الخواطر والذكريات التي تمر بشكل منطقي من خلال حكاية الأب نفسه. الأب نفسه يمر في رأس الابن كشريط متسلسل من الأحداث والحكايات وهي التي تشكل بمجموعها أطول الحكايات المروية في الرواية. الأب في طفولة يتيمة وإزاء قسوة الأخوة يهرب بعيداً عنهم والتوهان في الصحراء. عثور راعي وزوجته عليه إذ يحسنان له ويعيش معهما حتى يضعانه في يد صاحب القافلة لينقله معه إلى المدينة ليجد له حياة أكثر استقراراً ومعنى من حياتهما. الروائي عبدالله زايد ما أن يدخلنا في حكاية جديدة حتى تنشطر الحكاية نفسها إلى أكثر من جزء، متبحراً بأكثر من اسلوب وأكثر من مغزى للتناول. في هذا تكون الرواية أشبه بنص متفرع لأكثر من جهة والحكاية تولد أختها، وهذه نقطة ذكية تحسب للرواية في استعارتها لأسلوب تراثي عهدناه في نصوص أخرى كثيرة أهمها ألف ليلة وليلة، والرواية المعاصرة منذ بدأها حتى اليوم تجد فيه نبع لا ينضب وجذوة حداثوية متجددة في صقله وتجريبه وتجاوزه بوصفات وحيل حكائية متنوعة. من هنا سنمر عن طريق حكاية الأب وتاريخه بتاريخ الأخوة القساة، والراعي وزوجته ووصف شظف العيش في صحراء مترامية الأطراف. عن التقاليد في هذه البيئة الصحراوية ووصف للزاد والتقاليد والأعراف بشكل يقربها من طابع التسجيلية. عن الطاعون والمرض والكرم ونكران الذات. عن صاحب القافلة اللقيط الذي لا يسلم من جبروت المجتمع في واحدة من حكايات الرواية الأخلاقية التي تحيط بالموضوع بشفافية وكشف صريح لدناءة الإنسان وتحقيره لأخيه الإنسان لأسباب لا علاقة للإنسان نفسه بها، بل تشير لماضيه وظرفه الاجتماعي. في الرواية تقرب كبير وفهم للواقع العربي في العصر الحديث. هناك علاقة تقرب القارئ بتقريرية (قد تقلل من قيمة الحدث الروائي) ولكنها تغنيه بالمعلومات ولا تجعل الرواية بعيدة عن مؤثر كبير مثل النزاعات العربية وحروبها كما عليه الصراع العربي الإسرائيلي (افكار الجندي ياسر عن الاختلاف الأيديولوجي ومحاولته الدخول للموضوع بأسلوب واقعي بعيداً عن الوطنية والتعصب ورمي الأسباب بغير وجهتها الحقيقية). كما أن هناك صفحات ذات أثر فكري مباشر في وصف الثروات والإمكانيات ومحاولة إعادة التوازن من خلال نقد الذات والوطن والتوقف عند مسألة التحضر والمسألة الدينية، المحسوبية في العلاقات، الظواهر الاجتماعية الجديدة عن أحوال الأطفال والمتسولين. كما أنه لا يهرب من مواجهة مسألة الإرهاب والأبناء الإرهابيين في درس واقعي لا بد منه لفهم طبيعة انساننا العربي المركبة. كما أشرت فالرواية مجمع حكايات، بعضها ذات استفادة واضحة من التراث العالمي وأخرى شاءت الغرف من تراث المنطقة ومحاولة سبر أغواره والدخول له بشكل كامل كما عليه الكثير في الحكاية المؤثرة التي تشكل بمفردها قصة قصيرة مدهشة والتي تتناول تاريخ شاب أسمه إسماعيل وانفصام شخصيته إزاء ذكريات قاسية تلح عليه في كل مرحلة من حياته ألا هي مشاركته في قتل أخيه الصغير. هناك اكثر من دالة على قيمة الإنسان ومحاربته الطويلة من اجل الشعور بانتمائه للأرض وحبه الكبير، سواء ذلك الذي يهاجر مغترباً ويعود بعد سنين كما عليه البطل الأب أو غيره الذي يهرب ولا يعود بسبب من الحب نفسه كما في حكاية العجوز وابنها اللذان يديران أرض الأب والتي تهاجر من أرض لأخرى بسبب من عشقها لرجل من غير قبيلتها وتفانيها للحب ودفاعها عنه. الرواية رواية رحلة متواصلة من البداية حتى النهاية، والرحلة لا تنقطع بانتهاء الحكايات بل تمتد لحكاية البطل المتذكر، في غربته العنيفة وعدم فهم الآخرين له (رفض الأخوة له بسبب من اختلافه عنهم) أو عدم انسجامه مع أفكارهم البالية، أو ليأسه من المستقبل نفسه، ففي كلماته الأخيرة وهي نفس كلمات الرواية الأخيرة هناك إدراك واضح للضياع وعدم الجدوى من المحاولة. كان من الممكن أن تكون للرواية أكثر من بعد وفي الوقت نفسه عدها رواية معاصرة بكل معنى الكلمة، هذا لو حاول كاتبها الابتعاد بها عن الوعظية والحكاية الإيقاظية التي شكلت أجزاء صغيرة منها، فعلى أية حال كان من الممكن تناولها بأسلوب آخر بعيداً عن المباشرة كما حصل عند بعض تفاصيلها. ما يجب أن أشير إلى أن الرواية كذلك يمكن عدها رواية عن الموت. ففي صفحاتها التي تجاوزت المائتين، لا نجد حضوراً شاسعاً ومسيطرا بالمرة أكثر من فكرة الموت وحتميته. أن نشيد الموت ذا وقع شديد وتناوله كان [اكثر من طريقة و إشارة دالة، فكما أن الموت كمفردة وحكاية يتقدم الوصف منذ جملة الإهداء للشقيق الذي فارق الحياة حتى الجمل الأخيرة لفقد البطل لأبيه وتذكيره بأنه هو الموت نفسه المسبب لنهاية كل قصة نكتبها. إن الواقعية القاسية في رواية (المنبوذ) يجعل منها عملاً جديراً بالقراءة ومتابعة تتميز بثقلها في وسط الكم الهائل من الأعمال الأدبية التي تطبع وتنشر في عالمنا العربي.

_________________________________________________________

الناشر: دون كيشوت ـ 2006

bottom of page