..الكتابه خارج قضبان الأجناس الأدبيه المألوفه
بقلم د.عبد العزيز المقالح
في زمن البحث عن الحرية، هذا الحاضر الغائب، يجد الأديب نفسه في حال بحث مستميت عن حرية ثانية لا تقل أهمية عن الحرية الأولي، حرية الخلاص من قضبان الأشكال الأدبية التي تخضع لها المبدعون قرونا طويلة، وفي ظل هذا البحث المستميت يصطدم المبدع العربي بالمفاهيم السائدة عن الأجناس الأدبية والسمات غير المشتركة فيما يحاول في ثورة غير آمنة العواقب أن يكشف طريقا جديدا، وبعد أن يعثر على هذا الطريق يجد أنه طريق يؤلف بين الأجناس الأدبية القديمة ويبحث فيها عن سمات مشتركة تجمع الشعري والسردي والحواري أو بمعنى أدق تجمع بين الشعر والقصة والمسرحية في محاولة جادة لابتكار شكل أدبي جديد لا يمت بصلة إلى واحد منها وربما يمت بصلة ما إليها جميعا.
واللافت أن المبدعين الشبان هم المسكونون الوحيدون بهذا الهم الإبداعي، هم اكتشاف الجديد أو حتى هم التوحيد بين الأجناس الأدبية في جنس جديد. وهذا الهم ناجم عن الرغبة في الابتكار وليس كما يقول خصومة أنه ناتج عن العجز عن امتلاك ناصيته التعبيرية الخاصة بهذه الأجناس الواضحة في تميزها وفي حدودها الفارقة. وفي استقراء أكاديمي مطول لهذه المحاولات يتبين أن قلة قليلة من المبدعين الشبان هم الذين نجحوا في محاولاتهم الدؤوبة أما الغالبية منهم فقد فشلوا في المحولات الهادفة إلى إنتاج جديد يتنكب حدود الأجناس الأدبية المعروفة ويخرج عن تقاليدها الثابتة، وما النص الشعري المسمى بقصيدة النثر إلا النموذج المتحقق لهذه المحاولات الباحثة عن التجاوز الخارق والمخالف للمألوف.
وهناك محاولات أخرى بدأت في الظهور من وقت ليس بالقصير وقد وجدت طريقها إلى المجلات الجادة وعبر الكتب التي يتم الحديث عنها تحت تصنيف جديد غير مسبوق هو "نصوص" ويرى النقاد التقليديون بخاصة أنها ليست بالنثر أو الشعر ولا القصة أو القصيدة، وهو حكم متعسف يكشف عن جهل بهذه الأشكال ويثبت أن أصحاب هذه الأحكام يعجزون عن النفاذ إلى أعماق هذه "النصوص" ولا يدركون الجهد المبذول في كتابتها ولا الرؤية الكامنة وراء كتابتها. ووقفة نقدية جادة تجاه هذه النصوص تكشف أهميتها – أولا – تكشف – ثانيا – بأن لها جذورا في موروثنا الأدبي عندما بدأ المبدع القديم يشعر بالملل تجاه الثابت من الأجناس الأدبية وبدأت عباراتها السجينة داخل القواعد المحددة تضيق برؤيته، وهي حال نادرة لا يعانيها إلا الموهوب الحقيقي، والباحث عن المختلف داخل المؤتلف وعن الجديد خارج القواعد السائدة للقديم.
منذ أيام وصلني كتاب بديع وجدت فيه ملامح هذا المختلف، عنوان الكتاب: ( لأنك إنسان) لمبدع شاب من المملكة العربية السعودية، هو عبدالله زايد، والكتاب من منشورات الدار العربية للعلوم، ويضم ( 53) نصا قصيرا يسبقها هذا البيت الجميل من الشعر الذي قد يكون للكاتب نفسه: لازلت أعرف أن الصدق معصيتي... والشوق ذنب وأني لست أخفيه... وكأني بهذا البيت من الشعر الذي أفتتح به عبدالله زايد، نصوصه الجديدة يختزل أشواق هذا الكتاب وحنينه إلى نوع من الكتابة ما يزال التفكير في اجتراحها يشكل – عند بعضهم – نوعا من الذنب الأدبي ومعصية تستدعي التوبة.
أعذب ما في نصوص هذا الكتاب لغتها القائمة على صناعة الجمال من الكلمات، وهو جمال مشحون بالمعنى والغضب المتمرد والمفارقات المتميزة " سقط الطير الصغير من على الغصن فمات.. سقط شعب.. ليتنا مثل العصافير نحزن فقط بصمت فقط!! هذا اليوم متردد في الظهور.. في الإعلان عن نفسه... والشمس تشرق على استحياء... في خجل عفوي من نظرات البؤساء والمعدمين... مات احدهم جوعا... مرضا... هما... بكاه الصمت... وجدران الخرائب المهدمة... ومزابل المدينة وقطط الشوارع التي شاركته الفاقة!!. بمثل هذه النصوص التي يمتزج فيها الشعر بالنثر، والانطباع بالقص، يتقدم الكاتب إلى قارئه باسطا ( ذنبه ) أعني شوقه الذي قال عنه في التقديم إنه ليس يخفيه.
----------------------
نشر هذا المقال في جريدة الوطن السعودية
www.alwatan.com.sa
العدد 995