top of page

«المنبوذ» لعبدالله زايد



مضمون الرواية: "المنبوذ" رواية سعودية شيقة، حداثية في شكلها وبنائها المعماري، ولغتها الجملية، وأسلوبها الأخاذ، ومضمونها الفكري العميق؛ ترصد التحوّلات الاجتماعية في البلاد منذ أوائل القرن الميلادي العشرين، وانتقالها من قبائل متناحرة يهيمن عليها التعصب القبلي والجهل ويفتك بها الفقر والمرض، إلى دولة ذات عَلم واحد موحِّد، يسودها القانون والأمن والنظام، وتسيّرها مؤسَّسات متخصِّصة قارة. إنه انتقال من مجتمع القبيلة وأعرافها إلى مجتمع الدولة وقوانينها.

تصوِّر الرواية بتقنيات سردية رفيعة كفاح الآباء والأجداد في تلك البيئة القاسية، لتحسين ظروف معيشتهم، ونضالهم المستمر من أجل مستقبل أفضل لأولادهم:

" شعرتُ أنني كالقطة التي تحمل معها صغارها وتبحث لهم عن مكان ومأوى تضعهم فيه ليكونوا في أمان.. لم يغب عن ذهني أن هذا الوضع ليس هو الوضع المناسب لتنشئة طفلين في مقتبل الحياة، والمستقبل أمامهما.." ص 120

العلاقة العضوية بين العتبات والمضمون:

العتبات نسق من العلامات الدالة التي تسبق متن الرواية أو نصها المركزي. وتتمثّل العتبات في: العنوان، اسم المؤلّف، صورة الغلاف وتصميمه، الجنس الأدبي المصرَّح به على الغلاف، الإهداء، المقدمة، الفواتح المقتطفة عادة من كتّاب آخرين، وكلمة الناشر على الغلاف الأخير. وتُعدّ هذه العتبات مكوّنات فنية ذات خصائص شكلية ووظائف دلالية، فهي تتصل بصورة عضوية بمضامين النص المركزي وأفق توقع القارئ، فتشكّل له منارات للاستكشاف ومرافئ للتخييل الروائي.

أول عتبة تلفت انتباهنا في الرواية هو عنوانها "المنبوذ"، فهو اسم ملتبس فيه كثير من الاشتراك اللفظي، ويلقي بنا في لجة التساؤل القلِق: هل هو منبوذ بسبب مرض معدٍ أصابه كالجرب أو الجذام؟ أو أنه منبوذ بسبب أخلاق تشينه وعادات سيئة تحكَّمت فيه كالإدمان على المخدرات أو الخمر؟ أو أنه منبوذ بسبب فقره وإفلاسه المدقع الذي يدفعه إلى طلب العطاء من كل مَن يلتقيه؟ وقد جمع الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد ( 543 569م) الذي ولد في البحرين وقتل فيها وهو لم يتعدَ السنة السادسة والعشرين من عمره ولكنه خلّد اسمه بين أصحاب المعلَّقات، معظم أسباب نبذ الإنسان أو الحيوان في بيتيْن جميليْن:

وما زال تشرابي الخمور ولذتي

وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلدي

إلى أن تحامتني العشيرة كلها

وأُفرِدتُ إفراد البعير المُعبَّدِ

وعندما نبحر في قراءة الرواية، نجد أن المنبوذ شاب وسيم يتمتع بصحة جيدة، وعلى خلق رفيع، ويمتاز بشجاعة تثير إعجاب أو غيرة رفاقه، بيد أن ذنبه الوحيد هو أحلامه وطموحاته الإنسانية وآراؤه التي لا تنسجم مع الخط السائد في مجتمع تفتقر عاداته وقيمه إلى "روح التسامح وتقبّل الآخر". يقول المنبوذ:

"إن الله قد خلقني حراً، ولم أكن في أي يوم عبداً عند أحد، وإن الإنسان الحر هو من يصدح برأيه دون تردد أو خوف من أحد." (ص 79)

وهنا تتجلى العلاقة العضوية بين مضمون الرواية وإحدى عتباتها الأخرى، وأعني بها عتبة الفاتحة، إذ افتتحت الرواية بأبيات شعرية مقتطفة من "المواكب" للأديب الرسّام المهجري (اللبناني الأمريكي) جبران خليل جبران (1883 1931م):

فإن رأيتَ أخا الأحلام منفرداً

عن قومه وهو منبوذ ومُحتقَرُ

فهو الغريب في الدنيا وساكنها

وهو المهاجرُ، لام الناسُ أو عذروا

وقد ذكر فيلسوف الأدباء أبو حيان التوحيدي ( 310 414ه) في كتابيه "الصداقة والصديق" و"الإشارات الإلهية"، هؤلاء الأفراد القلائل الذين يتفردون بآرائهم وأحلامهم عن عامة الناس، وسمّاهم بالغرباء. كما ذكرهم الفيلسوف الطبيب الموسيقي الوزير الأندلسي أبو بكر بن باجة (487 533ه) الذي لم تحصّنه معارفه الطبية من السم الذي دسه له منافسوه فمات بسببه، في كتابه " تدبير المتوحِّد" فسمّاهم بالمتوحِّدين.

أما عتبة الإهداء في الرواية فهذا نصها:

" إلى الذين نحبُّهم فيرحلون

إلى الذين نفتقدهم فلا يأتون

إلى أخي علي الذي غيبه الموت إثر حادث أليم،

هو وزوجته وطفلتهما الصغيرة أثير..." (ص 5) من هذا الإهداء المؤثر الحزين، نستشف أن الروائي انطلق في روايته لا من ثقافة واسعة ودُربة في الكتابة فحسب، بل كذلك من تجربة أليمة، منحت إبداعه حرارة الأحاسيس ونبض المشاعر الدفينة. فعندما يفرغ الكاتب ذكرياته الجارحة وتجاربه المقضَّة على الورق، فإنه يقلّل من ضررها، إن لم يقضِ عليها.

وهذا يفسِّر لنا لماذا تزخر الرواية ببوح الشخصيات التي يغيّب الموت أحبابهم، ويقطف أعمار أعزائهم حتى الصغار منهم. فيترجَّل السارد من دابة النثر ليمتطي صهوة الشعر، ويتحوَّل من البوح الخافت إلى مناجاة الموت بصوت منفعل متوتر يذكِّرنا بالبكائيات السومرية والمرثيات القرطاجية:

" أيها الموت!

لم تزل تمارس هوايتك لم تزل قاسياً عنيفاً لا تأبه لأحد ولا تهتم بأحد

ما زلتَ تقسو على القلوب المسكينة

تضرب بعنفٍ نفوساً بريئة آه، أيها الموت، لو كنتَ ترى دموعنا آه، لو عرفت كم أبكيتنا...." ( ص 170)

فموضوعة الموت هي إحدى أهم الموضوعات الرئيسة المؤثرة التي حفل بها الأدب العالمي، ابتداء من ملحمة جلجامش السومرية، ومروراً بأبي العلاء المعري (363 449ه) في قصيدته الذائعة الصيت" غير مجدٍ في ملتي واعتقادي/ نوح باك ولا ترنم شادي"، والشاعر الإنجليزي جون دون ( 1572 1631م ) الذي بلغ به كرهه للموت إلى تحقيره وهجائه له في قصائد عديدة، وحتى أصغر شاعر معاصر في قرية إفريقية معزولة.


التشويق في الرواية:

لا يعتمد التشويق في الرواية على استغلال المشاهد الجنسية واللغة البذيئة لإثارة الغرائز الحيوانية، كما يفعل بعض الروائيين والروائيات الباحثين والباحثات عن الشهرة السريعة الرخيصة، بل يقوم التشويق فيها على تقنيات سردية عالية أساسها اضطلاع الكاتب بخلق شخصيات روائية كسيرة قلقة بائسة تنبض بالحياة، وإمدادها بشحنة روحية ووجدانية شديدة المفعول تجعل القارئ يتعاطف معها ويأسى لها، بل يتماهى فيها ويتوحد معها، فيأرق لآلامها وآمالها، ويتطلع لمعرفة مصيرها مآلها.

ومن هذه التقنيات العالية التي لجأ إليها الكاتب، البوح والمناجاة. فالبوح والمناجاة يخاطبان العاطفة والوجدان، على عكس الحوار والجدل اللذين يختصان بالعقل والمنطق. فعندما يبوح لك إنسان مهمَّش مسحوق بإسرار حياته وآلامه الإنسانية، ويفضي إليك بما يؤرِّقه من هموم وإحباطات وانكسارات، فإنه يعبر عن ثقته فيك، وقربه منك، فتتعاطف معه وتبذل جهداً لمساعدته ولو بالنصيحة التي لا تكلفك ثمناً. ورواية "المنبوذ" يطغى عليها البوح والمناجاة ولا تستخدم الحوار والجدل إلا قليلاً، في موضع سنشير إليه لاحقاً.

أضف إلى ذلك أن لغة البوح بسيطة ميسورة تنم عن الصدق والإخلاص، وليست لغة متعالية مكسوة بأزر البديع المزركشة المنمقة، فلا تشعرك بالتعالي عليك ولا التكبر والزهو والخيلاء. فتنساب إلى صميم قلبك وأعماق نفسك، مثل مياه نبع الجبل الرقراقة التي لا يسعها إلا أن تنساب متهادية إلى أعماق الوادي. فالبساطة أقرب إلى النفس وأبعد أثراً في العاطفة:

"لكن الحمى اللعينة التي انتشرت كالوباء، ما لبثت أن أوقعت طفلتي الصغيرة فاطمة في فراش المرض. ما زلت أذكر كلماتها بتأتأة ممزوجة بالألم: بابا، أنا تعبانة... بابا، أنا أحبك." (ص 99)

حداثة في الرواية:

لا أستخدم مصطلح " الحداثة" هنا كما يستعمله بعض الكتّاب العرب الذين يخلطون بين Modernity التي تشير إلى فترة تاريخية أوروبية هي عصر التنوير الذي أعقب القرون الوسطى واتسم بالدعوة إلى التخلي عن الإقطاع الزراعي، وفصل الكنيسة عن الدولة، والتوجه نحو الرأسمالية، والتصنيع، والعقلانية، والدول القومية؛ وبين Modernism وهي حركة فلسفية نشأت في الولايات المتحدة وأوربا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، نتيجة لظهور المجتمعات الصناعية والمدن الكبيرة، وأثّرت هذه الحركة في أعمال المبدعين الذين أدركوا أن الأنماط القديمة في الفن والعمارة والأدب والحياة اليومية أمست بالية قديمة لا تستجيب للتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم الصناعي.

وإقحام مصطلح "الحداثة" بمفهومه الغربي ذاك على العالم العربي الذي لم تتوافر له شروطه وظروفه وأسبابه، فيه كثير من المبالغة والتجني، ناهيك بلي عنق مصطلح آخر هو "ما بعد الحداثة" ليصف بعض الأدب العربي المعاصر. فأنا استخدم مصطلح "الحداثة" هنا بالمفهوم الذي بيّنه المفكر السعودي الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه "الموقف من الحداثة" ليدلّ على التجديد الواعي بالواقع والتاريخ والمرحلة والدور. فلكل فترة تاريخية حداثتها بسبب التطور المستمر والتغير الدائم. وهذا المفهوم قديم جديد في الأدب العربي والحوار حوله متواصل. وهذا ما جعل الأديب البصري محمد بن يزيد المبرد(210 296ه) يقول في كتابه " الكامل في اللغة والأدب" : " ليس لقِدم العهد يُفضل القائل، ولا لحدثانه يُهتضم المصيب، ولكن يعطى كلٌّ ما يستحق."

وإذا كان الدكتور مصطفى عطية جمعة قد اعتبر في كتابه "ما بعد الحداثة في الرواية العربية الجديدة" أن ما بعد الحداثة في الروايات العربية الصادرة في الألفية الثالثة، تتجلى في: التعبير عن أزمة الإنسان العربي، وضياع الانتماء، والإحساس بالدونية، وغياب الهوية الجامعة؛ فإن رواية "المنبوذ" تذهب على عكس ما لمسه الدكتور جمعه في الروايات الخمس التي درسها. فرواية " المنبوذ" تؤكد انتماء الشخصيات إلى وطنها، وتعلي من شأن الهوية الجامعة، وترفض الإحساس بالدونية، وتتسم بالتعاطف الإنساني.

ففي مناقشة هاتفية حادة جرت بين إحدى شخصيات "المنبوذ" وموظف الحجز في شركة الطيران الذي أخبره بعدم وجود مقاعد، تقول هذه الشخصية:

" كنتُ أستشيط غيظاً وأنا أجيبه: هل تعلم أن كلماتك فيها عنصرية وطبقية غبية لفظتها حتى الدول العنصرية، وبدت على لسان أمثالك سلوكا شائناً... جميع أفراد هذا الوطن كيان واحد، وبالتالي فإن الجميع جزء فعال في بنائه وتطويره ولهم كامل الحق في شركتك كونها وطنية، وكوننا ننتمي إلى هذا الوطن، رغماً عن أنفك." (ص 1112)

فهذه الأفكار حداثية بحق، وقد استخدم الكاتب هنا الحوار والجدل بدل البوح والمناجاة، لأنهما الأصلح لطرح الأفكار الجديدة.

بل أكثر من هذا فإن شخصيات "المنبوذ" تؤمن بمستقبل الأمة العربية. فإذا كان جيلنا هو جيل الهزيمة في معركة فلسطين، فإن الأجيال المقبلة في هذه الأمة العظيمة هي التي ستواصل النضال في المستقبل:

" لم يكن فرحا بانتهاء الحرب (حرب فلسطين عام 1948)، بل كان يبكي بحرقة وألم. توجهتُ إليه قائلاً: اطمئن، إذا كنتَ تعتبر أننا هُزمنا، فهو اعتقاد خاطئ، الأجيال التالية ستواصل النضال والقتال." (ص 80)

وهكذا نجد أن هذه الرواية تزخر بالأفكار الحداثية المتفائلة التي تؤمن بمستقبل الوطن، ولا تقبل الهزيمة، ولا الدونية في الانتماء.

خاتمة:

وخلاصة القول إن رواية "المنبوذ" تصوّر الواقع بصورة راقية رائقة مع كثير من التخييل والتخييل الذاتي، وهذا سر قوتها ونجاحها. فالرواية بوصفها جنساً أدبيا تنطلق من أرض الواقع لتحلق في سماء الخيال الواسع. وارتباط الرواية بالواقع هو الذي يجعل منها جنساً أدبياً لا يزال في صيرورة غير مكتملة، لأن الواقع نفسه في تطور دائم وتغيُّر مستمر.

*عبدالله زايد، المنبوذ (بيروت: الدار العربية للعلوم، 1427ه/2006م) الطبعة الثانية. وتوجد للرواية طبعة ثالثة.





bottom of page